فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}.
هذه الآية مخاطبة لجميع معاصري رسول الله. وأمرهم الله أن لا يجعلوا مخاطبة رسول الله في النداء كمخاطبة بعضهم لبعض فإن سيرتهم كانت التداعي بالأسماء وعلى غاية البداوة وقلة الاهتبال، فأمرهم الله تعالى في هذه الآية وفي غيرها أن يدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشرف أسمائه وذلك هو مقتضى التوقير والتعزيز، فالمنبغي في الدعاء أن يقول يا رسول الله، وأن يكون ذلك بتوقير وخفض صوت وبر، وأن لا يجري ذلك على عادتهم بعضهم في بعض قاله مجاهد، وغيره، وقال ابن عباس المعنى في هذه الآية إنما هو لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم {كدعاء بعضكم} على بعض أي دعاؤه عليكم مجاب فاحذروه.
قال الفقيه الإمام القاضي: ولفظ الآية يدفع هذا المعنى.
والأول أصح ثم أخبرهم تعالى أن المتسللين منهم {لواذًا} قد علمهم. واللواذ الروغان والمخالفة وهو مصدر لاوذ وليس بمصدر لاذ لأنه كان يقال له لياذًا ذكره الزجاج وغيره، ثم أمرهم بالحذر من عذاب الله ونقمته إذا خالفوا عن أمره، وقوله: {يخالفون عن أمره} معناه يقع خلافهم بعد أمره وهذا كما تقول كان المطر عن ريح وعن هي لما عدا الشيء والفتنة في هذا الموضع الإخبار بالرزايا في الدنيا وبالعذاب الأثيم في الآخرة ولابد للمنافقين من أحد هذين ملكًا وخلفًا، ثم أخبرهم أنه قد علم ما أهل الأرض والسماء عليه وخص منهم بالذكر المخاطبين لأن ذلك موضع الحجة عليهم وهم به أعني وقوله: {ويوم يرجعون} يجوز أن يكون معمولًا لقوله: {يعلم} ويجوز أن يكون التقدير والعلم الظاهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون النصب على الظرف، وقرأ الجمهور {يُرجَعون} بضم الياء وفتح الجيم، وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمر {يَرجِعون} بفتح الياء وكسر الجيم، وقال عقبة بن عامر الجهني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية خاتمة النور فقال {والله بكل شيء بصير} وباقي الآية بين. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {لا تَجْعَلوا دعاء الرسول بينكم كدعاءِ بعضكم بعضًا}.
فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه نهي عن التعرُّض لإِسخاط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانه إِذا دعا على شخص فدعوتُه موجبة، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم أُمروا أن يقولوا: يا رسول الله، ونُهوا أن يقولوا: يا محمد، قاله سعيد بن خبير، وعلقمة، والأسود، وعكرمة، ومجاهد.
والثالث: أنه نهي لهم عن الإِبطاء إِذا أمرهم والتأخّرِ إِذا دعاهم، حكاه الماوردي.
وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وأبو المتوكل، ومعاذ القارىء: {دعاء الرسولِ نبِيِّكم} بياء مشددة ونون قبل الباء.
قوله تعالى: {قد يَعْلَمُ اللّهُ الذين يتسلَّلون} التسلل: الخروج في خفية.
واللِّواذ: أن يستتر بشيء مخافة مَن يراه، والمُراد بقوله: {قد يَعْلَمُ} التهديدُ بالمجازاة.
قال الفراء: كان المنافقون يشهدون الجمعة، فيذكُرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ويعيبهم بالآيات التي أُنزلت فيهم، فإن خفي لأحدهم القيام قام، فذلك قوله: {قد يعلم الله الذين يتسلَّلون منكم لِواذًا} أي: يلوذ هذا بهذا، أي: يستتر ذا بذا.
وإِنما قال: {لواذًا} لأنها مصدر لاوَذْتُ، ولو كان مصدرًا ل لُذْتُ لقلتَ: لُذْتُ لِيَاذًا، كما تقول: قُمْتُ قِيَامًا.
وكذلك قال ثعلب: وقع البناء على لاوَذَ مُلاوَذةً، ولو بني على لاذ يَلُوذ، لقيل: لياذًا.
وقيل: هذا كان في حفر الخندق، كان المنافقون ينصرفون عن غير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مختفين.
قوله تعالى: {فَلْيَحْذَر الذين يخالِفون عن أمره} في هاء الكناية قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى الله عز وجل، قال مجاهد.
والثاني: إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال قتادة.
وفي {عن} قولان:
أحدهما: أنها زائدة، قاله الاخفش.
والثاني: أن معنى {يخالفون}: يُعْرِضون عن أمره.
وفي الفتنة هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: الضلالة، قاله ابن عباس.
والثاني: بلاء في الدُّنيا، قاله مجاهد.
والثالث: كفر، قاله السدي، ومقاتل.
قوله تعالى: {أو يُصِيبَهُمْ عذابٌ أليم} فيه قولان:
أحدهما: القتل في الدنيا.
والثاني: عذاب جهنم في الآخرة.
قوله تعالى: {قد يَعْلَمُ ما أنتم عليه} أي: ما في أنفسكم، وما تنطوي عليه ضمائركم من الإِيمان والنفاق؛ وهذا تنبيه على الجزاء على ذلك. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}.
يريد: يَصيح من بعيد: يا أبا القاسم! بل عظّموه كما قال في الحُجُرات {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله} [الحجرات: 3] الآية.
وقال سعيد بن جُبير ومُجاهد: المعنى قولوا يا رسول الله، في رِفق ولِين، ولا تقولوا يا محمد بتجهُّم.
وقال قتادة: أمرهم أن يشّرفوه ويفخّموه.
ابن عباس: لا تتعرضوا لدعاء الرسول عليكم بإسخاطه فإن دعوته موجبة.
{قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا} التسلّلل والانسلال: الخروج.
واللِّواذ من الملاوذة، وهي أن تستتر بشيء مخافة مَن يراك؛ فكان المنافقون يتسلّلون عن صلاة الجمعة.
{لِوَاذًا} مصدر في موضع الحال؛ أي متلاوذين، أي يلوذ بعضهم ببعض، ينضم إليه استتارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة؛ حكاه النقاش، وقد مضى القول فيه.
وقيل: كانوا يتسلّلون في الجهاد رجوعًا عنه يلوذ بعضهم ببعض.
وقال الحسن: لواذًا فرارًا من الجهاد؛ ومنه قول حسان:
وقريشٌ تجول منا لِوَاذا ** لم تحافظ وخَفّ منها الحُلُوم

وصحّت واوها لتحركها في لاوذ.
يقال: لاوذ يلاوِذ ملاوذة ولِواذًا.
ولاذ يلوذ {لواذًا} ولِياذا؛ انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها اتباعًا للاذ في الاعتلال؛ فإن كان مصدرَ فاعَل لم يُعَلّ؛ لأن فاعَل لا يجوز أن يُعَلّ.
قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} بهذه الآية احتجّ الفقهاء على أن الأمر على الوجوب.
ووجهها أن الله تبارك وتعالى قد حذّر من مخالفة أمره، وتوعّد بالعقاب عليها بقوله: {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فتحرُم مخالفته، فيجب امتثال أمره.
والفتنة هنا القتل؛ قاله ابن عباس.
عطاء: الزلازل والأهوال.
جعفر بن محمد: سلطان جائر يُسلّط عليهم.
وقيل: الطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول.
والضمير في {أَمْرِهِ} قيل هو عائد إلى أمر الله تعالى؛ قاله يحيى بن سلام.
وقيل: إلى أمر رسوله عليه السلام؛ قاله قتادة.
ومعنى {يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي يُعرضون عن أمره.
وقال أبو عبيدة والأخفش: {عن} في هذا الموضع زائدة.
وقال الخليل وسيبويه: ليست بزائدة؛ والمعنى؛ يخالفون بعد أمره؛ كما قال:
لم تَنْتَطِق عن تَفَضُّلِ

ومنه قوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي بعد أمر ربه.
و{أن} في موضع نصب بِ {يَحْذر}.
ولا يجوز عند أكثر النحويين حذِر زيدًا، وهو في {أن} جائز؛ لأن حروف الخفض تحذف معها.
قوله تعالى: {ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض}.
خلقًا وملكًا.
{قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} فهو يجازيكم به.
و{يعلم} هنا بمعنى علم.
{وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} بعد ما كان في خطابٍ رجع في خبر؛ وهذا يقال له: خطاب التلوين.
{فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} أي يخبرهم بأعمالهم ويجازيهم بها.
{والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ} من أعمالهم وأحوالهم.
ختمت السورة بما تضمنت من التفسير، والحمد لله على التيسير. اهـ.

.قال أبو حيان:

{لا تجعلوا} خطاب لمعاصري الرسول عليه السلام لما كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة، أمروا بتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحسن ما يدعى به نحو: يا رسول الله، يا نبي الله، ألا ترى إلى بعض جفاة من أسلم كان يقول: يا محمد وفي قوله: {كدعاء بعضكم بعضًا} إشارة إلى جواز ذلك مع بضعهم لبعض إذ لم يؤمر بالتوقير والتعظيم في دعائه عليه السلام إلاّ من دعاه لا من دعا غيره.
وكانوا يقولون: يا أبا القاسم يا محمد فنهوا عن ذلك.
وقيل: نهاهم عن الإبطاء والتأخر إذا دعاهم، واختارهم المبرد والقفال ويدل عليه {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} وهذا القول موافق لمساق الآية ونظمها.
وقال الزمخشري: إذا احتاج إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرّقوا عنه إلاّ بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه على دعاء بعضكم بعضًا ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي انتهى.
وهو قريب مما قبله.
وقال أيضًا: ويحتمل {لا تجعلوا} دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم، يسأله حاجة فربما أجابه وربما رده، وإن دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم مسموعة مستجابة انتهى.
وقال ابن عباس: إنما هو لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض أي دعاؤه عليكم مجاب فاحذروه.
قال ابن عطية: ولفظ الآية يدفع هذا المعنى انتهى.